كتبها: عمار بن طوبال
هي الرواية الأولى لكاتبة تخطو خطوات ثابتة نحو احتلال مكانة متميزة داخل المتن الروائي الجزائري المعاصر، ياسمينة صالح التي برز اسمها على الساحة الثقافية الجزائرية في النصف لثاني من ثمانينيات القرن الماضي كقاصة واعدة تمتلك أسلوبا جميلا ومغريا بالقراءة، وأفكار واضحة تطرحها من خلال قصصها التي كانت تنشرها في تلك الفترة عبر الصفحات الثقافية لبعض الجرائد الوطنية، وقد كانت تلك الصفحات الثقافية المنبر الذي اطل علينا من خلاله الكثير من الكتاب والمبدعين قبل أن يجدوا طريقهم للنشر في وقت لاحق، بعد نضج التجربة ومواءمة الظروف.
ذلك الحضور المميز لياسمينة صالح جعل الكثير من النقاد والمهتمين بالشأن الإبداعي يتوقعون لها مستقبلا مشرقا في عالم لقصة، خصوصا أنها من الأصوات النسائية القليلة التي استطاعت خلال فترة وجيزة أن تصنع لنفسها اسما في عالم القصة الذي كان يهيمن عليه بشكل كبير الحضور الرجالي، بالرغم من حداثة السن وحداثة التجربة.
لكن الذي حدث أن اسم ياسمينة صالح اختفى بشكل مفاجئ وتام من الساحة الثقافية، اختفت دون مبررات مما جعل البعض يرجح فرضية كونها استسلمت وخضعت لتلك التقاليد البالية التي تقف حجر عثرة في وجه إبداع المرأة خصوصا حين يكون هذا الإبداع يقول الحب ويوحي برغبات الجسد.
غير أن تلك المبدعة الشابة عادت بعد غياب أكثر من عشر سنوات، أكثر تألقا وتميزا في إبداعها، عادت هذه المرة من باب الرواية؛ عادت بـ" بحر الصمت " عنوان روايتها الأولى والفائزة بجائزة مالك حداد للرواية الجزائرية في دورتها الأولى (200 / 2001 ) التي تنظمها رابطة كتاب الاختلاف وترعاها الروائية الكبيرة أحلام مستغانمي.
بحر الصمت رواية تستعير قاموس العشق النزاري لتوظفه سرديا، وهي رواية مستغانمية ( نسبة لأحلام مستغانمي ) لأنها متأثرة حد التماهي برواية ذاكرة الجسد سواء من ناحية الأسلوب الذي يعتمد على جمل قصيرة، وشاعرية ذات نبرة غنائية، أو من ناحية الموضوع الذي هو عودة إلى حرب التحرير الجزائرية من بوابة قصة حب مستحيل وتراجيدي.
تقوم الرواية على تناظر زمني ين الحاضر والماضي، الحاضر بطيء ومثقل بالصمت والحزن العريض، في حين الماضي حركي وأحداثه المتسارعة ترسم صورة للجزائر قبل وأثناء حرب التحرير.
السعيد هو الشخصية المحورية في الرواية، الرواية التي تقع أحداثها في ليلة واحدة، أبطالها السعيد وابنته والصمت الذي يمتد بينها كبحر لا منتهي رغم تواجدهما في غرفة واحدة، ولكن الماضي هو الشيء الوحيد الذي يظل طاغي الحضور، الماضي الذي يصفي حساباته مع السعيد عن طريق الصمت ونظرات الإدانة التي ترمقه بها ابنته، الابنة التي لا اسم لها في الرواية ولا ملامح محددة لها أيضا، فما هي سوى نتيجة لتلك الخطايا التي ارتكبها الأب العجوز طوال حياته قد تجسدت أمامه في نظرات تلك الابنة التي تدينه بكل قسوة، تدين أبوته التي لم تكن لتمنحها هي وأخاها الرشيد الذي قرر الانتحار عن طريق جرعة زائدة من المخدرات، أي إحساس بالأبوة؛ كما تدين تاريخه غير المشرف وتسلقه السياسي على حساب الآخرين الذين ضحوا بحياتهم من اجل مبادئهم، في حين ظل هو لينعم بالامتيازات الريعية التي نتجت عن الثورة.
الرواية تتكون من 19 فصلا تروى بضمير المتكلم الذي هو السعيد الشخصية الرئيسية في الرواية، كل فصل يبدأ بتلك المواجهة الصامتة بين أب عجوز وابنة متمردة وناقمة على والدها، أما الأحداث فهي عبارة عن فلاش باك، اشتغال على الذاكرة واستعادة لتاريخ كامل تتقاطع فيه الأحداث الشخصية مع تاريخ الوطن.
عبر كل فصل من فصول الرواية يعود بنا السعيد عبر ذاكرته التي جعلتها الشيخوخة وتأنيب الضمير أكثر صفاءا وأكثر قدرة على استحضار كل التفاصيل الصغيرة لماض لم يكن نبيلا ولا مشرفا بالنسبة للبطل؛ في الماضي حيث الجزائر المستعمرة حيث يعيش السعيد سيدا إقطاعيا صغيرا يستعبد الفلاحين في أرضه التي ورثها عن والده ، مكانته في القرية جعلته مغرورا رغم إحساسه الداخلي بالخواء، وبأنه إنسان فاشل،كان فشله في الدراسة سببا في وفاة والده كمدا وحسرة؛ في تلك لقرية التي تعيش على أخبار الحرب وترتقب وصول شرارتها إليها، وعبر ذاكرة السعيد المنسابة كشلال هادئ وصاف نتعرف على شخصيات أخرى: قدور عمدة القرية والخادم الأمين لمصالح فرنسا بالمنطقة، بلقاسم اللقيط الذي يوظفه السعيد كفزاعة لترهيب الفلاحين الذين يعملون في أرضه والذي سيتحول لاحقا إلى بطل قومي بعد انضمامه للثورة وهي تحل بالمنطقة على غرار كل مناطق الوطن، وعمر المعلم بمدرسة القرية، وهو شخصية محورية رغم المساحة الصغيرة المخصصة له في لرواية، لأنه لعب دورا محوريا في سير وتحريك الأحداث، حيث كان لقاءه بالسعيد والصداقة المتشنجة التي جمعتهما سببا في كل التغيرات والانعطافات المهمة التي حدثت في حياة السعيد، أول هذه الانعطافات وأهمها: جميلة، أخت عمر، تلك المرأة/ الحلم / الوطن التي حولت السعيد من رافض للثورة لأنها تهدده مصالحه الإقطاعية إلى مقاتل في صفوف الثورة، ليس حبا في الوطن ولا دفاعا عن قضية أنما من اجل جميلة التي كان شقيقها عمر منسقا بين الثوار، منذ تلك الليلة التي رأى فيها السعيد جميلة ظلت هي وحدها المسيطرة على تفكيره وسلوكياته كلها، وبالتالي كان عليه أن يحافظ على حياته من أجل حبيبته في الوقت الذي كان فيه رفاقه يتسابقون على الشهادة، أما هو فالشهادة في هذه الحرب بالنسبة له كانت شيئا عبثيا وبلا قيمة ما دامت ستبعده عن تلك التي هزت كيانه من نظرة واحدة، حتى عندما علم بأن قائده في الكتيبة هو عاشق آخر لجميلة التي عشقها الكثيرون، وهي لم تعشق ولم تحب سوى رجل واحد هو الرشيد قائد الكتيبة والرجل الحاد الملامح والطيب والمندفع من اجل الوطن، وحبيبة كان يرى أنه لا يستحقها دون أن يمنحها مهرا بقيمة الاستقلال، لهذا كانت الشهادة قريبة منه ومطلوبة أكثر من الحياة، ربما لأنها وحدها خلدته في قلب جميلة التي بالرغم من قبولها لاحقا الزواج من السعيد إلا أنها لم تحب سوى الرشيد ولهذا خلدته في اسم ابنها، ذلك الابن الذي كان اسمه سببا في نقمة أبيه / السعيد عليه.
في هذه الرواية سرد لاحباطات الروح بالنسبة لإنسان يبدو أمام الجميع شخص محترم، ناجح ووطني وذو مقام رفيع بين الناس، لكن حين نتعرف عليه من الداخل عبر ما يرويه هو نفسه عن حياته نكتشف شخصا آخر: نذل، جبان ووصولي استطاع في اللحظة الحاسمة أن يترك مكانه في المؤخرة أثناء الثورة ليتبوء الصدارة ويستولى على نجاحات الآخرين وحتى أحلامهم المتمثلة في جميلة التي لم تكن سوى كناية عن الجزائر بلد الحزن العريض والأحلام العظيمة والإخفاقات الكثيرة.
كانت هذه هي الرواية الأولى لياسمينة صالح، صدرت سنة 2002، ثم تلتها برواية " أحزان امرأة من برج الميزان "، ثم برواية ثالثة بعنوان " وطن من زجاج"
حيث حاولت ياسمينة في روايتها الأخيرة هذه التخلص من أسلوب أحلام مستغانمي الذي أسرها في روايتها الأولى، هي التي كانت عاشقة لدرجة الوله لروايات أحلام مستغانمي، حيث صرحت في إحدى اللقاءات الصحفية أنها لم تتقدم بروايتها "بحر الصمت" لمسابقة مالك حداد سوى لأن أحلام مستغانمي – راعية الجائزة – ستقرأ نصها.
ياسمينة صالح رغم تنويعها في أسلوب الكتابة إلا أنها لا تزال مخلصة لموضوع أثير لديها، وهو الكتابة عن رجل يحمل اللعنة بداخله، تلك اللعنة التي تحل على جميع من يقترب منه، ليظل هو في النهاية يجتر خيباته، ويعاني من تأنيب ضمير لا يرحم.
المصدر: مدونتي على مكتوب
tassust18.maktoobblog.com